المدن المستدامة… حين يصبح التخطيط الحضري سبيلاً للحياة

المدن المستدامة… حين يصبح التخطيط الحضري سبيلاً للحياة

د. محمد علي الميالي _ رئيس التحرير
في ظل التحولات البيئية المتسارعة، وازدياد الضغط السكاني على البنى التحتية في معظم العواصم والمدن الكبرى، لم يعد مصطلح “الاستدامة” خيارًا رفاهياً أو خطابًا بيئياً نخبوياً. بل أصبح ضرورة ملحّة تفرضها الوقائع المناخية، والصحية، والاقتصادية، وحتى الأمنية.
الاستدامة الحضرية تعني قدرة المدينة على الاستمرار في تلبية احتياجات سكانها، دون أن تستنزف مواردها أو تخلّ بتوازنها البيئي أو تُهمل احتياجات الأجيال القادمة. هي ببساطة: أن تكون المدينة صالحة للعيش اليوم… وغداً.
وفي هذا الإطار، ظهر مفهوم “المدينة المستدامة” كأحد أبرز النماذج التي تتبناها حكومات ومجتمعات حول العالم لضمان جودة الحياة، وتخفيف الآثار السلبية للنمو العشوائي، وتحقيق التوازن بين الإنسان والمكان.

ما هي المدينة المستدامة؟
المدينة المستدامة هي تلك التي تُدار وفق رؤية متكاملة تقوم على ثلاثة محاور رئيسية:

  1. تنمية اقتصادية متوازنة
  2. حماية بيئية فعالة
  3. عدالة اجتماعية في توزيع الموارد والخدمات
    وهي ليست نموذجًا واحدًا ثابتًا، بل إطار مرن يمكن تطبيقه في أي مدينة بحسب ظروفها المحلية، بشرط وجود إرادة سياسية، وتخطيط طويل الأمد، ومشاركة مجتمعية فاعلة.

أبرز خصائص المدينة المستدامة
المدن المستدامة تتشارك مجموعة من الخصائص التي تضمن استمرارية الحياة وجودتها، ومن أبرزها:

  1. تخطيط عمراني ذكي
    يضمن الاستخدام الفعّال للأراضي، ويقلل التوسع العشوائي، ويربط السكن بالخدمات الأساسية والنقل والمرافق العامة ضمن شبكة متماسكة.
  2. نقل عام مستدام
    يعتمد على الحافلات الكهربائية، والقطارات الخفيفة، ومسارات الدراجات، ما يقلل التلوث ويخفف الازدحام ويعزز التنقل النظيف.
  3. طاقة متجددة
    الاعتماد على الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح يقلل من الاعتماد على الوقود الأحفوري، ويعزز أمن الطاقة المحلي.
  4. إدارة متكاملة للنفايات والمياه
    يشمل ذلك فرز النفايات من المصدر، إعادة التدوير، ومعالجة مياه الصرف الصحي لإعادة استخدامها في الري أو الصناعة.
  5. مساحات خضراء عامة
    توفر متنفساً للسكان، وتخفض درجات الحرارة داخل المدن، وتحسّن الصحة النفسية وتدعم التنوع البيئي.
  6. مشاركة المواطنين في صنع القرار
    تشجع المدينة المستدامة مواطنيها على المشاركة في تخطيط أحيائهم وتحديد أولويات الخدمات.

لماذا نحتاج إلى مدن مستدامة؟
أهمية الاستدامة في المدن تنبع من آثارها المباشرة والعميقة على المجتمع:
• تحسين صحة السكان من خلال تقليل تلوث الهواء والمياه، وتوفير بيئة آمنة ونظيفة.
• دعم الاقتصاد الحضري عبر تقليل الهدر، وتحفيز الوظائف الخضراء، وخفض كلفة الطاقة والصيانة.
• رفع مستوى العدالة الاجتماعية من خلال توزيع عادل للخدمات والفرص.
• الاستجابة لأزمات المناخ مثل التصحر والفيضانات وارتفاع درجات الحرارة.
• تحقيق الاستقرار الحضري ومقاومة التدهور العمراني.

المدن العراقية: بين التحديات والفرص
المدن العراقية، من بغداد إلى البصرة، تواجه تحديات مركبة ناتجة عن تراكمات طويلة من الحروب، الإهمال، والتخطيط العشوائي. تشمل هذه التحديات:
• تهالك البنية التحتية الأساسية.
• توسع عمراني غير منضبط.
• تلوث بيئي متزايد (هواء ومياه ونفايات).
• غياب أنظمة نقل جماعي فعالة.
• اعتماد مفرط على الكهرباء التقليدية والمولدات.
لكن في المقابل، يمتلك العراق فرصاً فريدة للانتقال نحو المدن المستدامة، منها:
• مناخ مناسب للطاقة الشمسية.
• موارد مائية يمكن استعادتها بإدارة سليمة.
• جيل شاب قادر على قيادة التحول البيئي.
• دعم دولي متزايد لمشاريع الطاقة النظيفة والبنى الخضراء في المنطقة.

الطريق نحو مدن عراقية مستدامة
لتحقيق هذا التحول، من الضروري العمل وفق استراتيجية وطنية شاملة، تشمل:

  1. تحديث شبكة المياه والصرف الصحي وإدخال تقنيات المعالجة المتقدمة.
  2. اعتماد أنظمة طاقة شمسية في المباني الحكومية والمدارس والمستشفيات.
  3. إطلاق مشروع نقل عام نظيف في بغداد والمدن الكبرى.
  4. تشجير المدن وإنشاء أحزمة خضراء لمكافحة التصحر وخفض حرارة الصيف.
  5. تطوير قوانين البناء الأخضر وتطبيقها تدريجياً على المشاريع الجديدة.
  6. تشجيع ريادة الأعمال البيئية بين الشباب والنساء.
  7. إشراك المجتمع المدني في عمليات الرقابة والتوعية البيئية.

الخاتمة: مستقبل المدن يبدأ اليوم
الاستدامة لم تعد خياراً مؤجلاً.
إنها الأساس الذي يجب أن تُبنى عليه مدننا، لتكون بيئة صحية، عادلة، مزدهرة، وقادرة على مواجهة التحديات القادمة.
فمدن اليوم هي من ترسم ملامح حياة الغد، وقرار التحول نحو الاستدامة… يبدأ من الآن.

من مكتبة منشوراتنا

منشورات ذي صلة

انضم الينا

Google reCaptcha: مفتاح الموقع غير صالح.