د. محمد علي سلمان رئيس تحرير وكالة ضوء الأمل الإخبارية
في زمنٍ تتقاطع فيه الأزمات المناخية مع الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، لم تعد التنمية المستدامة ترفًا فكريًا أو مشروعًا مؤجلًا، بل غدت ضرورة ملحة لضمان مستقبلٍ إنساني آمن ومتوازن. غير أن هذه الأهداف الطموحة لن تتحقق بجهود الحكومات وحدها، وإنما تتطلب تعبئة مجتمعية واعية، يُشكّل فيها المجتمع المدني العمود الفقري للحراك التنموي الحقيقي.
فالمجتمع المدني، بمؤسساته المحلية ومنظماته القاعدية ومبادراته الشعبية، ليس مجرد شريك ثانوي، بل هو الفاعل القادر على تحويل الخطط إلى واقع، والأهداف إلى أثرٍ ملموس في حياة الناس. إذ يتمتع بمرونة الحضور، وعمق الاتصال بالمجتمعات، وصدق النوايا المنطلقة من الميدان لا من مكاتب صنع القرار.
تتجلى أهمية هذه الشراكة حين ندرك أن التنمية المستدامة ليست حزمة من المشاريع الاقتصادية أو البيئية وحسب، بل هي رؤية شاملة تمس كل تفاصيل الحياة اليومية: من الحصول على مياه نظيفة وهواء نقي، إلى فرص العمل الكريم والتعليم الشامل والرعاية الصحية، وصولًا إلى بيئة حضرية خضراء خالية من الهشاشة والمخاطر.
ولعل أكثر ما يعزز هذه الرؤية هو ما تقدمه النماذج الدولية الناجحة من براهين عملية على أثر التنمية المستدامة في تحسين حياة الشعوب:
🔹 كوستاريكا – دولة صغيرة في أمريكا الوسطى، اختارت أن تبني مستقبلها على أسس خضراء، فحققت أكثر من 98% من إنتاجها الكهربائي من مصادر متجددة، وحمت غاباتها عبر سياسات ذكية للحد من إزالة الأشجار، وركّزت على التعليم والصحة كدعائم أساسية للتنمية. اليوم، يعيش المواطن الكوستاريكي في بيئة صحية مستقرة، مع واحدة من أعلى نسب السعادة في العالم.
🔹 السويد – إحدى الدول الأكثر تقدمًا في ملف الاستدامة، حيث تجاوزت مجرد تطبيق القوانين البيئية إلى تبني نمط حياة مستدام ثقافيًا ومجتمعيًا. تستثمر السويد بشكل متواصل في النقل النظيف، والطاقة المتجددة، وإعادة التدوير الشامل، حتى باتت مدنها تحتل المراتب الأولى عالميًا في جودة الحياة، وانخفاض الانبعاثات، وشمولية الخدمات.
هاتان التجربتان، رغم اختلاف السياقات الجغرافية والسياسية، تُجمعان على نقطة واحدة: أن التنمية المستدامة تبدأ حين تتضافر الإرادة السياسية مع الحراك المجتمعي الواعي.
في العراق، حيث تتقاطع تحديات التصحر، وندرة المياه، والتفاوت الاجتماعي، مع آمالٍ متجددة بالنهوض والإعمار، فإن تمكين المجتمع المدني وتحفيزه على قيادة المبادرات الخضراء، والمراقبة البيئية، والتثقيف الشعبي، ليس خيارًا تكميليًا بل ضرورة تنموية لا غنى عنها.
لقد آن الأوان لتتحول أهداف التنمية المستدامة من خطابات المؤتمرات إلى واقعٍ عراقيٍّ مشهود، يُلامس الإنسان في بيته، ومدرسته، ومزرعته، ومستشفاه.
يمتلك العراق الطاقات، ويحتاج فقط إلى ثقة وتكامل الأدوار.
والمجتمع المدني، إذا ما أُتيح له فضاء من الحرية والدعم المؤسسي، سيكون القاطرة الحقيقية نحو عراق أخضر، مزدهر، يليق بتضحيات شعبه، وطموحات شبابه.